«لسه مطرحك فاضى» يا عبدالرحمن


"الوطن" على مائدة إفطار أسرة شهيد "كمين الرفاعي" بسيناء

06-07-2015



عندما تقترب الشمس من الغروب وتحل أجواء الإفطار الرمضانى، يسارع الكل إلى منزله، ليلتف مع أسرته على مائدة الإفطار، لكن داخل ذلك البيت الفقير، القابع فى شارع «الرشيدى» الضيق بعزبة الشال، فى مدينة المنصورة، لم يُعرف طريق للمة رمضان.
هدوء قاتل، شربة ماء قد تكفى الجميع. مشادات حول ضرورة تناول الطعام. أب صامت لا يتحدث، وأم تفسح مساحة إلى جوارها على المائدة للغائب: «ده مكان عبدالرحمن.. لسه فاضى، أصلى كنت بحب يقعد جنبى ساعة الفطار»، وتستطرد بابتسامة تخالطها الدموع: «آخر العنقود بقى».
 وقبل أذان المغرب بدقائق، وبمجرد أن تعبر باب المنزل الخشبى المتهالك، يتسلل إلى مسامعك صوت آيات الذكر الحكيم: ﴿وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِى سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ، تُطرب قاطنى منزل عبدالرحمن محمد متولى، شهيد أحداث الشيخ زويد، الذى استطاع القضاء على 12 من الإرهابيين خلال الاشتباكات التى دارت الأربعاء الماضى، حينما حاولت عناصر إرهابية اقتحام كمين «أبورفاعى» المنوط به تأمينه، ولكن ظل يشتبك معهم حتى سقط بعدما طالت رأسه رصاصات الغدر فأردته قتيلاً.
داخل المنزل الكل فى صمت من فرط الصدمة، والآيات خطفت قلوبهم، تخلع عنها الخوف والحزن الرابض على قلوبهم، وتمنحهم شيئاً من الطمأنينة. «المحرر» شاركت أسرة الشهيد «عبدالرحمن»، بطل موقعة كمين «أبورفاعى»، مائدة الإفطار التى خلت من الشهيد وبقى موضعه شاغراً، فكان موعده معهم على تلك المائدة، الخميس الماضى، فى أول أيام إجازته فى رمضان، ورغم كل ما حدث لم يخلف موعده، فعاد إليهم فى إجازة أبدية، عاد محمولاً عن الأعناق، ولكن اتخذ طريقه نحو القبر بدلاً من تلك المائدة، وغاب عنهم للأبد بعدما وورى الثرى.

فى الطابق الأول كان يحاول «أحمد متولى» عم الشهيد فى عناء لملمة ما تبقى من البيت المتبعثر من غضبة الحزن. أحضر شقيقه المكلوم «محمد» والد الشهيد، حول مائدة واحدة داخل الممر الضيق الواصل بين غرفتين تشكلان كل مساحة المنزل الضيق، يقف الأب، لا يقوى على الجلوس بأريحية لتناول الطعام، يقضم اللقمة، ويبتعد، يحاول الأخ تشجيع شقيقه على الأكل الذى لم يزر جوفه منذ 3 أيام: «بقالنا 3 أيام مادقناش الزاد.. يدوب شوية ميه ولّا أى عصير والسحور، لكن فطار، دى أول مرة نحط فيها أكل ونتلم». يقول العم «أحمد»، مشيراً إلى انقطاعهم عن مائدة الإفطار منذ اليوم الذى دخل عليه فيه شقيقه ليخبره باستشهاد «عبدالرحمن»، وإلى جواره شقيقه يتذكر فى حديثه لحظات تمنى فيها الموت قبل أن يسمع بأذنيه نبأ وفات نجله الأصغر.
 على ارتفاع 9 أمتار كان يجلس الأب «محمد»، على قطعة من الحديد لا تتعدى نصف المتر، يحاول تربيط بعض الأسلاك الكهربية، خلال عمله فى توصيل الكهرباء لأحد المصانع. هاتفه أحدهم، بصوت رخيم، وبكل وقار وبكلمات مرتبة ومقتضبه بأن نجله المجند «عبدالرحمن» سقط شهيداً، ظن الرجل الخمسينى فى البداية أنها محض مزحة من زميل لنجله، حسب روايته.
كان الرجل ينتظر أن يلتقط نجله «عبدالرحمن» من ذلك الرجل الهاتف ليخبر والده بأنه «مقلب»، لكن خاب ظنه بعدما أعاد عليه القائد المكلف بتبليغه خبر استشهاد نجله. يساوره الشك ويظن أنه أخطأ الاسم، فيملى عليه الرجل اسم نجله بالكامل حتى يتيقن حينها أنه فى حقيقة واقعة: «ماكنتش مصدق حقيقى، كنت بقول له تلاقيه اسم غلط، وارد، لكن قال لى اسمه فى البطاقة»، يحاول أن ينزل عن موضعه، يتحسس خطاه بصعوبة نحو درجات السلم الخشبى، يضع قدماً ويخطئ أخرى، حتى يتمكن من الوصول إلى الأرض، يخبر نجله الأكبر الذى يرافقه فى عمله، بما أملاه عليه القائد العسكرى.
لا يصدق «محمود» والده، يعاود الاتصال بنفس الرقم ليتأكد بنفسه، فيحمل الأب المكلوم على دراجته البخارية نحو منزله، ليخبر والدته بمصابهم: «طول الطريق كنت بفكر هقول لها ازاى».
يصل الرجل إلى منزله، يحاول أن يترجل عن الدراجة، ولكنه لا يستطيع، يعاود الكرّة، ولكن لا يقدر من ثقل الحمل على عاتقه، كما لو أن الدهر قد أفقده القدرة على تحريك قدميه: «حسيت إنى اتشليت. كانت وقتها أم العيال واقفة فى الشباك، قالت لى مادام مش قادر تصلب ضهرك يبقى عبدالرحمن مات»، وأخذت فى الصراخ، ومعها خرجت الجدة «سنية أحمد» عن موضعها: «أمى صعب عليها تقوم وتتحرك نزلت زحف على السلم وخدتنى فى حضنها». وقتها عاد بذاكرته لسنوات، حينما كان «عبدالرحمن» طفلاً يتطلع إلى المستقبل، يتحسس خطاه، يدرك الحلم، ويقول إن نجله كان يخطط لدخول الثانوية العامة، حتى يدخل كلية الهندسة، ورغم أن مجموعه فى المرحلة الإعدادية كان يسمح له بدخول الثانوية العامة فإنه، رحمة منه بوالده، ولضيق الرزق، قرر أن يدخل مدرسة «الصنايع» بالمحلة ومنها قد يحقق حلمه بالالتحاق بكلية الهندسة.
 من مدينة المحلة، حيث مدرسة الصنايع، إلى منزله بالمنصورة، يرتاح سويعات قليلة قبل أن يخرج إلى عمله بأحد المحال التجارية الكبرى بالمنصورة، هكذا كانت حياة «عبدالرحمن» التى كان يتابعها عمه «أحمد» عن قرب، ويقول إن نجل شقيقه لم يكن شاباً عادياً، منذ نعومة أظافره كان لديه طموح وحلم وخطة لمستقبله، وجمع بين العمل والدراسة منذ صغره، وكانت أمنية حياته أن يلتحق بكلية الهندسة، ولكن لم يحالفه الحظ فى الحصول على مجموع بالثانوية الفنية يؤهله لذلك، فما كان منه إلا أن قرر دخول معهد فنى صناعى يؤهله لدخول كلية الهندسة ولكن الجيش أجّل كل شىء.
 ما زال العم يحتفظ برسومات نجل شقيقه، بنايات شاهقة ومساجد وعمارات، كلها كان يخططها، يحلم بأن يكون مهندساً معمارياً، يبنى ويشيد حسب ما يقوله العم أحمد، الذى يشير بأصابعه إلى تلك المخطوطات التى يحتفظ بها على جهاز حاسب آلى صغير، يُدخل كلمة السر: «عبده» ويفتحه لتظهر تلك الرسومات والمخطوطات التى كان يرسمها منذ التحاقه بقسم الزخرفة بالمعهد. بجسده النحيل، ولحيته الكثة، وملامحه العابسة، يقول العم أحمد متولى إن «عبدالرحمن» بعدما أتم دراسته بالمعهد قرر أن يلتحق بالكلية، ولكن أصابه الدور فى الالتحاق بالجيش: «ساعتها قال لى هما يا عمى سنة ونص أخلصهم وأرجع أكمّل دراسة براحتى».
يدخل «أحمد متولى» إلى غرفة صغيرة ذات طلاء قديم، ومعلق على أحد جدرانها سلاح «لعبة»، يشير إليه العم ويقول إن «عبدالرحمن» أحضره وعلقه بغرفته منذ علمه بالالتحاق بالجيش، ويقول إن نجل شقيقه لم يكن يرهب الجيش كبقية أقاربه وأقرانه، بل كان يرغب فى دخول الجيش، حتى إنه فكر إذا لم يوفق فى دخول كلية الهندسة أن يتطوع فى الخدمة العسكرية.
يلتحق «عبدالرحمن» بالقوات المسلحة قبل ما يزيد على 5 شهور، حسب رواية «أحمد»، ويقول إنه التحق بسلاح المشاة، ودخل مركزاً للتدريب فى البداية بالإسماعيلية، ومع أول إجازة لم يكن يشتكى من شىء سوى قلة المياه، حتى تم توزيعه على سيناء.
يعود الابن فى أول إجازة بعد مركز التدريب فلا يجد والديه، ذهبا فى رحلة إلى العمرة، ويقول العم إنه جلس معه عقب وصوله وأخبره بأنه جاء توزيعه فى سيناء: «قال لى يا عم أحمد ربنا يستر.. أنا رايح سيناء ومش عايزك تقول لحد»، ويستطرد: «لحد قبل ما يموت بكام يوم أمه كانت فاكراه مش فى سيناء».
يصر العم على مساعدة نجل شقيقه من خلال الوساطة عن طريق أحد جيران يعمل قائداً فى أحد الأسلحة المهمة حتى يوصى بنقله من سيناء: «الواحد حس إنه بيرمى ضناه فى النار وهو واقف ساكت»، فما كان من عبدالرحمن إلا الرفض، وطالبه بعدم التدخل فى ذلك الأمر: «قال لى سيبنى، أنا مش هينفع أسيب زمايلى وأهرب»، وهو نفس الأمر الذى كرره والده وحاول إقناعه بضرورة نقله من سيناء عن طريق التوسط لدى أحد معارفه، ولكنه رفض للمرة الثانية مصراً على الاستمرار بجانب زملائه، خاصة بعد اختيار الضابط قائد الكمين له ولزملائه بالاسم: «كان حاسس إن الموضوع ده ثقة كبيرة ومش لازم يفرط فيها».
 يجذب الأب «محمد متولى» من شقيقه طرف الحديث، ويقول إنه علم بتوزيع عبدالرحمن على سيناء خلال رحلة العمرة، هاتفه وأخبره بمجرد حصوله على إجازة، ولكنه أصر على عدم إخبار والدته: «كان خايف عليها، هو عارف إن قلبها ضعيف ومش هتقدر تستحمل»، ولكن أحد جيرانه، الذى رافقه فى طريقه للجيش خلال مركز التدريب، أخبر والدته بالمصادفة بأن نجلها ذهب لسيناء، وحينها سقطت مغشياً عليها.
لم يكن الأب يقتنع بأن نجله الذى لم يتعدَّ عامه الحادى والعشرين سوف يستطيع التصدى لنار الإرهاب المشتعلة فى سيناء هو وزملاؤه: «قلت إيه شوية العيال دول اللى هيرموهم فى النار هناك عشان يقفوا فى وش النار دية؟»، ويعاود ليقول إن ابنه خيّب ظنه حين تصدى لهذا الكم من الإرهابيين وقضى عليهم، كان الرجل يستمع لقائد نجله وهو يتحدث عنه حين كان يصطاد الإرهابيين واحداً تلو الآخر، وهو يتذكر ظنه الذى خيّبه، ويقول بزهو شديد: «كنت غلطان لما شفتهم صغيرين.. طلعوا كبار، أكبر مننا كلنا».
الرجل بشعره الأشيب، وقامته القصيرة، يقول إنه كان يخطط لزواج «عبدالرحمن»، اختارت الأم الزوجة المنتظرة، وحددوا موعداً فى أول إجازة للتقدم لخطبتها، ولكن لم يمهله القدر، حيث زف إلى القبر بدلاً من العروس: «نصيبه.. كان ابن موت».
 مع صوت أذان المغرب، كانت الجدة «سنية» تبحث عمن يعطيها حقنة «الأنسولين» التى كان يحضرها لها حفيدها الشهيد، ومن بعده نجلها «أحمد»، لا تستطيع الإفطار من دونها. وعلى مسافة من جلسة أولادها على المائدة عادت الجدة السبعينية إلى الجلوس على أريكة، بعدما وضعت فى فمها بعض لقيمات يقمن صلبها لتستطيع الاستمرار والحياة، كان ما آوت إليه هو موقع نومة عبدالرحمن كل ليلة: «شقة أبوه يدوب مكفياهم.. نزل قعد معايا بقاله سنين»، فالشاب الراحل كان يرافق جدته، ويعيش معها فى شقتها بالدور الأول من تلك البناية التى تجمع عائلة «متولى».
أعدت الجدة عدداً من النصائح لعبدالرحمن حينما حلمت بذهابه للجيش، ظلت تتلوها عليه كل ليلة، ومع كل جلسة بينهما، وتذكّره بجده «متولى» زوجها الذى فقدته بعدما وقع فى أسر جيش الاحتلال الإسرائيلى خلال حرب أكتوبر، وتقول إن زوجها كان فى سلاح المهندسين، وشارك فى نصب أول كوبرى لتعبر عليه المدرعات للضفة الشرقية ولكنه وقع فى الأسر.
 22 يوماً ظلت السيدة تبحث عن زوجها «كعب داير» على كتائب الجيش فى حلوان: «كنت دايخة كل يوم عشان أعرف أوصل له»، حتى عاد إليها ذات ليلة، مليئاً بالجروح، وبجانبه الأيمن رصاصتان ساكنتان، لم تضمد جراحه منذ أسره حتى سرح الدود داخل تلك الجروح حسب روايتها: «الدكتور كان بيطلع له الدود من الجرح من كتر ما هو فضل من غير علاج وهو فى الأسر عند اليهود»، وتستطرد: «رجع مافهوش حاجة سليمة»، ورغم كل ذلك لم تحصل السيدة على معاش ولا شهادة ولا أى شىء.
كانت السيدة تكرر قصة زوجها على حفيدها الحبيب كل يوم وتوصيه: «إوعى تهرب من الجيش يا ولدى.. جدك كان بطل، خليك بطل زيه»، وتستطرد: «جدك حارب وأسروه وجه على رجليه ومات وسطنا بالعيا، إياك يا عبده تهرب من الجيش»، تكررها كل يوم، وتعيد قصة جده على مسامعه كما لو أنها توصيه، قصة جدته التى كان يفخر بها حسب روايته بين زملائه بالجيش.
«عكاز الأعمى» هكذا تصفه الجدة، حيث كان موضع سرها ومفتاح خزائنها، تعمد إليه كل شهر بتكليف قبض معاشها الذى تصرف منه على علاجها، يحصّله لها كل شهر ويعطيها سراً: «عملت له توكيل عام عشان يقبض لى المعاش»، ولكن حين توجه للجيش «حولت التوكيل لبنتى الوحيدة»، ولكن لم تكن تأمن لأحد أكثر من حفيدها: «قال لى كلها سنة ونص وارجعلك يا ستى واقبضهولك زى كل شهر».
تلتفت الجدة لابنها «محمد» وتقول له بعتاب: «فارش ليه يا ابنى الشارع»، منتقدة السرادق الذى أقامه لاستقبال المعزين، فيرد عليها بسرعة: «هو أنا هجوزه يا أمى.. اعتبريه فرحه يا أمى». فى الطابق الثالث، جلست الأم «ست الدار محمود»، بعباءتها السوداء، أمام المائدة، وعدد من النساء يحاولن إقناعها بضرورة تناول إفطارها، ولكن دون جدوى، تبتسم حينا وتدمع حينا، وتغالب الدموع وتحبسها: «ماكنتش أعرف إنه فى سيناء»، وتقول إنه لما عرف «زعق لهم إنهم قالولى»، ولكن ظل كل يوم يحدثها ليطمئنها، وكلما طالبته بالموافقة على التوسط لنقله كان يرفض قائلاً لها: «دخلنا 60 فرد لازم نرجع 60».
 حكايات «عبدالرحمن» عن سيناء والجيش مع أمه لم تكن تنتهى، دائماً ما كان يفخر بعمليات الجيش ضد الإرهابيين، وآخرها حين أخبرها بقيام الجيش بالاستيلاء على منزل كان يستخدمه الإرهابيون وتحويله إلى مبيت لهم: «كنت بقول له إوعى يكون فيه قنبلة فى البيت ده تضرب فيكو يا ولدى»، ويرد عليها بكل فخر: «خلاص، طهرناه منهم ومافهوش أى حاجة خطر»، ويستطرد: «إحنا هنضّف سيناء منهم يا ماما»، وتشير إلى أنه كان متخوفاً من 30 يونيو، وقال لها: «يا ماما أنا خايف من يوم 30 ستة».
لم يكن يشتكى أبداً لوالدته من أى أحوال تلم به بالجيش هناك: «كان بيخاف على زعلى عشان عيانه»، وتقول إنها دائماً ما كانت تعرف أخباره هناك من خلال والده أو عمه: «كان مش على لسانه إلا الحمد لله.. إحنا زى الفل». على مقربة من جلسة السيدة الخمسينية، تقف «نور» زوجة شقيقه، تتذكر حينما حكى لها عن حلم له: «حلمت إنى شفت جنازتى خارجة من مسجد النصر وطوابير ورايا لحد مقابر العزبة»، فردت عليه ساخرة: «مين ده بس إلى هيمشى وراك هو انت فيه حد يعرفك؟»، وتعلق بكل فخر: «مصر كلها بقت تعرفه اهو ومشيت وراه»، وتقول إنه «كان يداوم فى رمضان على جمع الفلوس من الجيران لشراء المشروبات وقضاء طلباتهم، وشراء زينة الشارع وتعليقها، وفى أول اتصال به فى رمضان بعد دخوله الجيش قال لنا: مين بيجيب لكم دلوقتى التمر، ومين علق الزينة؟».
 إلى جانبها يقف «محمود» زوجها وشقيقه الأكبر، يعمل فى السعودية، وعاد للتوّ بعد وفاة شقيقه، يحاول لملمة ذكرياته المبعثرة من فرط الحزن، عن آخر لقاء بينهما حينما سافرا معاً لرأس البر: «قلنا نخرج نتفسح يوم قبل ما هو يروح الجيش وأنا أرجع السعودية»، وكان أكثر ما يثير «محمود» هو رغبة شقيقه الملحة فى دخول الجيش وفرحته بالالتحاق به: «كنت قاعد أقول له: حد يا ابنى يفرح وهو داخل الجيش حد يبقى مبسوط من الجيش»، ولكن هو كان غريب عن الجميع كان له فكره، وحب وشغف بالعسكرية غير طبيعى.
ويقول إن اليوم الأول الذى عاد فيه إلى القاهرة مرتدياً بدلته العسكرية ظل يسير بها فى الشوارع والطرقات بكل فخر، وتوجه لأصدقائه بأحد المحال التجارية وزملائه حتى يلتقط معهم الصور التذكارية بها.
على ماكينة الحساب بأحد محال البقالة التى تتوسط مدينة المنصورة، يجلس «أحمد عبدالتواب»، صديق «عبدالرحمن» ورفيق دربه خلال عمله بالمحل، يقول إن الشهيد عمل بذلك المحل ست سنوات، ولم يتركه إلا عندما اتجه للجيش، ويقول إنه فى أول إجازة جاء إليهم بالبدلة العسكرية وبدأ يجمع بعض احتياجاته من المحل بفرحة شديدة. وقبل مغادرته أصدقاءه، قالهم لهم: «مش عارف الوشوش هتتلاقى تانى ولا لأ»، ويستطرد: «واحتمال ماعدناش نتقابل»، مؤكداً أن قلبه كان يشعر بأنه سيسقط شهيداً، ويؤكد أنه كان يتمنى ذلك وكان يشعر بأنه سوف ينال تلك الشهادة.
 فى وسط المحل وقف عبدالرحمن وأصدقاؤه يلتقطون الصور التذكارية: «كان فرحان أوى إنه داخل الجيش، كان فرحان بالبدلة وماكانش خايف إن ممكن حد يضره لما يشوفه لابسها»، ورغم كل ذلك لم يتحدث معهم عن أى مخاوف، ولكن دائماً ما كان يهمهم بأحاديث غير مفهومة عن الأوضاع هناك، ولكن كان يصر على عدم التخلى عن زملائه: «كان بيقول دايماً رغم كل اللى بيحصل هناك أنا مع زمايلى، يا نعيش مع بعض يا نموت مع بعض».
فى الجزء الخاص بالبقالة، يقف صبرى راضى، رفيقه فى نفس القسم بالمحل، وزميله فى معهد الصنايع، ويقول إن جميع أساتذته كانوا يعتمدون عليه فى بعض الأعمال: «كان شاطر جداً فى الرسم والعمارة والزخرفة»، وهو ما أهّله ليعمل فترة فى النقاشة والدهانات، ويشير إلى هاتفه ليُخرج آخر ما كتب على «فيس بوك»: «الإجازة خلصت يا عالم، هنيجى تانى ولا لأ». فى شارع الرشيدى، مسقط رأس عبدالرحمن، يقف عادل فكرى، جاره، يتذكره جيداً، ويصر الرجل على ضرورة قيام المحافظة بتخليد ذكرى الشهيد من خلال إطلاق اسمه على مدرسة عزبة الشال، منتقداً إهمال المحافظ للجنازة وعدم حضوره لها، وهو ما خلق إصراراً داخل أسرته بعدم حضور السرادق الذى أقامه بعض رجال الأعمال للشهيد بالقرب من المحافظة: «هما ليه مش عايزين ييجوا يشوفوا عيشتنا وعيشة أهل الشهيد على حقيقتها، ولّا خايفين على منظرهم ومكسوفين يخشوا العزبة والحى؟».



تعليقات