غاز المنازل.. خطوط لتسريب الموت




§       «معد التحقيق» يخترق عالم «تركيب الغاز الطبيعى»: عمالة غير مدربة ومعدات متهالكة وكشف عن التسريب بطرق بدائية.. ورئيس «تاون جاس»: مش هرد «عاوزين تنشروا انشروا»

مخالفات كارثية فى الوصلات والمواسير.. والرقابة غائبة.. والكشف الدورى منعدم و رئيس إدارة المشروعات السابق: شركات المقاولات من الباطن يمتلكها ناس «إيديهم طايلة».. وهم من أزاحونى من منصبى بعد رفضى الموافقة على «مخالفات»

§       فنى يدخن الشيشة أثناء توصيل الغاز للأجهزة المنزلية.. والشركة تطلب من الموظف الواحد توصيل الغاز لـ 100 شقة خلال الشهر

§       الرقابة الصناعية: أخطاء فنية فى تركيب المواسير تسببت فى زيادة حرائق السخانات ونقص تدريب العمالة السبب الرئيسى فى الأزمة

      وكأن الأمر برمته كابوس تحاول جاهدة الإفاقة منه، فى طرفة عين فقدت زوجها وولديها ولم يتبق لها من أسرة بأكملها سوى رضيع لم يكمل شهره السادس، مر على الأمر ثلاثة أسابيع كاملة، لكنها تتذكر الليلة وكأنها الأمس، كانت تغط فى نوم عميق، قبل أن يهزها صوت رعد، فتحت عينيها على دخان يتسلل من تحت باب الغرفة، تملكها الخوف، أخذت «جيهان عيد» فى إيقاظ زوجها «هانى سعيد» الراقد إلى جوارها، انطفأت أنوار المنزل، خرج الزوج ممسكاً بكشاف مضىء، ليفتح باب الغرفة، وكأنه فتح طاقة جهنم، النيران تمسك بجدران المنزل والدخان يملأ أركان الغرفة فى لحظات.

فتح الزوج النافذة وطالب زوجته بالهروب برضيعهما، لحظتها داهمه ضيق فى التنفس بفعل الدخان ليسقط مغشياً عليه، ولتسارع الزوجة ورضيعها «ساجد» ناحية النافذة، ساعدها جارها وتناول منها الرضيع، قبل أن تتسلل النيران لشقة الجار ففر هارباً، لم تجد الزوجة مفراً سوى إلقاء نفسها من النافذة لتسقط على أسياخ مشتعلة تشوى قدميها، تتحامل على نفسها وتقفز نحو الشارع، لتنجو بالطفل، تاركة خلفها زوجها ونجليها «سلمى»، 9 أعوام، و«سعيد»، 16 عاماً، لتلتهمهم النيران المتقدة. «معد التحقيق» خاض مغامرة فى عالم صيانة وتركيب الغاز الطبيعى، ويكشف عن مخالفات تزيد من احتمالات تسريب الغاز الطبيعى للمنازل الموجود فيها، بعدما تسلل من بين فوهات وثقوب صنعها الإهمال ليقضى على أرواح المواطنين بغتة وبقسوة مفرطة، فى حوادث حرائق تضج بها محافظات مصر.

هنا توثيق لـ6 حالات حرائق منها، يعتقد أصحابها بأنها تسببت فيها توصيلات غاز طبيعى، بخلاف العمل لمدة يومين فى إحدى شركات المقاولات العاملة من الباطن، ليكشف غياب الاشتراطات وعوامل الأمان فى التركيب والتوصيل، وغياب الرقابة على شركات مقاولى الباطن من جانب شركة «تاون جاس» (محل التحقيق).

بعد مرور ثلاثة أسابيع على حادث منزل «جيهان وهانى»، ما زالت رائحة الأجساد المتفحمة تملأ أركان الشقة التى التهمتها النيران، جدران يطلخها السواد، نوافذ مهشمة، ودرجات سلم منهارة، وبقايا ملابس محترقة متفرقة هنا وهناك، وبعض مما تبقى من أوراق الكتب الدراسية، ما زالت تحتفظ ببعض من هيئتها داخل غرفة الأطفال، ملابس الرضيع، بعض بقايا أوانى الطعام.

التجول فى الشقة، القابعة فى منطقة البساتين جنوب القاهرة، يجب أن يكون بعناية وحرص شديدين، ما زالت بعض أجزاء متفحمة للضحايا ترقد وسط الركام، يحذر «هشام يحيى» الجار، وشاهد عيان على الحادث، مشيراً إلى أن أحد أطراف الابن «سعيد» ما زالت مفقودة، ولم يجدوها بعد الحادث، يتوجه بكل حرص نحو أحد الأركان، يخرج بأطراف أصابعه ما تبقى من عداد الغاز الطبيعى المختفى وسط حطام المنزل والرماد: «ده السبب فى كل اللى حصل».

لم يكن الحادث الأول من نوعه فى الشقة نفسها، كما لم يكن تسريب الغاز هو الأول، يروى «هشام» أن توصيل الغاز الطبيعى للمنطقة كان قبل عام ونصف العام، ونشب حريق فى نفس الشقة بعد ستة أشهر فقط من التركيب، حيث اشتعلت النيران فى مطبخ الشقة، وهو بنفسه ساعد «هانى» المتوفى وزجته فى إخمادها باستخدام المياه، وجاءت شركة «تاون جاس» لتصلح الجزء التالف فى المطبخ.

ولكن قبل 25 يوماً من الحادث الأخير، الذى وقع فى ديسمبر 2016، تكرر التسريب وشعرت الزوجة وأهل المنزل برائحة شديدة للغاز الطبيعى، وخاصة بالقرب من باب المنزل حيث يستقر العداد، وحين تقدمت الزوجة بأكثر من شكوى، طالبتها شركة «تاون جاس» التى أجرت لها التركيبات بأن تغلق محبس الغاز بعد الاستخدام، وهو نفس الأمر الذى أكدته «حنان» شقيقة «هانى» التى تقطن الطابق السفلى من نفس المنزل.

بتوجس جلس الحاج «سعيد» والد «هانى»، وعينه معلقة بعداد الغاز الطبيعى، منذ وفاة نجله وتمثل خطوط الغاز هاجساً ومصدر خطورة، لم يعد يأمن لوجودها فى منزله. يتهم الرجل العجوز شركة «تاون جاس» وإدارتها بالتسبب فى وفاة نجله، بل ويروى أنه بعد اندلاع الحريق لم تتحرك الشركة لإغلاق خطوط الغاز إلا بعد 24 ساعة كاملة من نشوب الحريق، وقامت الحماية المدنية بإغلاق محبس الغاز لتتمكن من إطفاء الحريق، الذى تجدد مرتين، قبل أن تصل الشركة بعد إطفائه بيوم كامل.

ضحايا وأرقام

بحسب مصدر رسمى بالطب الشرعى (طلب عدم نشر اسمه)، فإن عام 2016 شهد وفاة 31 مواطناً بمحافظة القاهرة، و18 مواطناً بمحافظة الجيزة خلال حوادث تسبب فيها تسرب الغاز الطبيعى بالمنازل، كما تسبب الغاز فى 2480 حريقاً بواقع 6.6% من إجمالى عدد الحرائق خلال عام 2015 حسب آخر إحصاء للجهاز القومى للتعبئة والإحصاء.وتبلغ أطوال الخطوط المستخدمة فى نقل الغاز (الشبكة القومية) 45 ألف كم، وارتفع الاستهلاك المحلى من الغاز الطبيعى فى أكتوبر 2016 بنسبة 11.8% عن العام الماضى، حسب تقرير رسمى للجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء.

توكل الدولة الشركة القابضة للغازات الطبيعية «إيجاس»، لتوصيل الغاز الطبيعى، حيث تقوم بذلك من خلال ثمانى شركات مصرية تابعة لها، تختص كل منها بنطاق جغرافى محدد، على رأسها الشركة المصرية لتوزيع الغاز للمدن «تاون جاس»، التى يتناولها التحقيق، وهى معنية بتوصيل الغاز الطبيعى لمحافظات القاهرة والجيزة والإسكندرية والإسماعيلية وبورسعيد.تفتخر «تاون جاس»، من خلال موقعها الرسمى على شبكة الإنترنت، بأنها منذ تأسيسها كشركة مساهمة مصرية فى يناير من عام 2000 وحتى 2016، تخدم أكثر من 5 ملايين عميل، وهو ما يمثل نحو نصف عدد مستخدمى الغاز الطبيعى بمصر.تعتمد شركة «تاون جاس» فى توصيل الغاز الطبيعى للمنازل على شركات مقاولات خاصة من الباطن، تعود ملكيتها وإدارتها لقيادات سابقة فى قطاع الغاز الطبيعى، وتلقت الدولة المصرية من البنك الدولى قرضين أولهما فى عام 2008 بقيمة 75 مليون دولار، وثانيهما فى عام 2014 بقيمة 500 مليون دولار لتمويل مشروعات توصيل الغاز الطبيعى للمنازل، ويفرض البنك من خلال تلك القروض اشتراطات بيئية وصحية فى عمليات التركيب والتوصيل، بخلاف أن المواصفات المصرية لتركيب وتوصيل الغاز الطبيعى هى مواصفات إنجليزية جرت عليها بعض التعديلات الخاصة بطبيعة البيئة والجغرافيا السكانية.

يفرض القانون رقم 117 لسنة 1981، المعنى بتوصيل خطوط الغاز الطبيعى، على الشركات العاملة فى التوصيل مد الخطوط والتوصيلات بطريقة لا تؤثر على سلامة المبانى أو قاطنيها أو أى أطراف أخرى. وإذا تسببت هذه التوصيلات فبى أى ضرر لملاك المبانى أو قاطنيها، تتحمل هذه الجهة التعويضات عن هذه الأضرار.

تأخير التقارير النهائية للمعمل الجنائى

فى منطقة المطرية بالقاهرة تستقر قوائم وعوارض خشبية غليظة لتسند الجدران المتهدمة، محاولات لترميم المنزل القديم الذى تدمرت جدرانه بعدما هزه انفجار ضخم، وإلى جواره يقف «جمال صابر» صاحب المنزل، يحكى عن شقيقه «محمد» المصاب فى المستشفى، وأطفاله الذين أصابهم الذعر، ونساء المنزل اللاتى عشن فى الشارع لمدة عشرين يوماً فى العراء، بعدما أخلى الحى المنزل خوفاً من تهدمه، بعض الجيران اتهموا «جمال» بالتنقيب عن الآثار، والبعض الآخر أطلقوا شائعات مؤداها أن صاحب المنزل إرهابى يصنع متفجرات فى منزله.

أربع سنوات منذ توصيل الغاز الطبيعى لمنزله، و«صابر» وجيرانه من سكان المنزل يشمون رائحة غاز فى المدخل، وكلما شكوا لشركة «تاون جاس» يأتيهم الرد بأن الأمر طبيعى، هكذا سار الأمر طيلة أربع سنوات لم تتوقف خلالها الشكاوى، حتى صباح يوم من أيام مارس عام 2016، شعر السكان بزيادة رائحة الغاز، وفى الخامسة عصر ذلك اليوم بينما كان «محمد» شقيق «صابر» فى طريقه لعمله إذا بانفجار ضخم يرج المنزل، ويصيب «محمد» بارتجاج فى المخ، ينتقل على أثره للمستشفى متأثراً بجروحه.

يخرج «جمال» من جيبه هاتفه المحمول ليُطلع معد التحقيق على عدد من الفيديوهات التى صورها خلال تغيير الشركة لخط الغاز الرئيسى أمام منزلهم، بعد السيطرة على الحريق مباشرة فى اليوم التالى، بعدها على الفور توقفت رائحة الغاز الطبيعى.
رفضت الشركة الاعتراف بمسئوليتها عن تسريب الغاز فى منزل «جمال»: «طب لو ما عندهمش تسريب ليه يغيروا الخط اللى تحت الأرض بعد التفجير»، ويقول إنه تابع بنفسه أثناء الكشف عن الخط بالكامل، وشاهدهم وهم يختبرون «الوصلات واللحمات» الموجودة فى المواسير تحت الأرض، ويغيرون بعضاً منها، وبعد الانفجار قرر الحى إخلاء منزل جمال والمنزل المجاور له، ليعيش هو وأولاده وثلاث أسر أخرى فى خيام أمام المنزل لعشرين يوماً، حتى سمح لهم الحى بالعودة لبيتهم بعد معاينة اللجنة الفنية، والبدء فى ترميم المنزل.

عام كامل مر على الحادث، وما زال «على حسن» محامى «صابر» ينتظر التقرير النهائى للطب الشرعى، ليبدأ فى إجراءات التقاضى ضد الشركة، ليتهمها بالتسبب فى الحادث، الذى وقع نتيجة إهمال فى الوصلات الرئيسية للغاز الطبيعى، حسب عريضة الدعوى الذى يجهزها، وهو يتهم الشركة بالتسبب فى تأخير صدور تقرير الطب الشرعى، ويقول إنها ليست حالة فردية، فكل حوادث الغاز الطبيعى تتأخر تقاريرها الطبية لمدد طويلة تصل لعام وعامين فى بعض الأحيان.

فساد وبلاغات

فى أبريل من عام 2011، خرج أحمد عبدالرؤوف، مدير إدارة التخطيط الأسبق بشركة «تاون جاس»، ليعلن فى عدد من الصحف أن الشركة تستورد خراطيم غاز طبيعى منذ عام 2009 من الصين وغير مطابقة للمواصفات القياسية المنصوص عليها، وعقب ذلك تم فصله من الخدمة بتهمة «نشر شائعات تضر بسمعة الشركة».

فى عام 2012، استوردت شركة «تاون جاس» صفقة جديدة من الخراطيم غير المطابقة للمواصفات، طبقاً لمصدر من داخل الشركة، وتم توزيعها على الشركة المنفذة من الباطن وبدأ العمل بها، ولكن شركة «غاز مصر» إحدى شركات التنفيذ كشفت الأمر، وطالبت بسحب الخراطيم من أيدى الفنيين، وهو ما دفع رئيس الشركة السابق محمد حسنين، لتحويل المسئولين عن الصفقة للنيابة للتحقيق، وتحويل مها كروش مسئول إدارة المهمات بالشركة للنيابة، وقامت الشركة بإصلاح تلك الخراطيم داخل الشركة ولم تقم باستبدالها بأخرى جديدة.

فى يناير 2013، قررت محكمة تعويضات شمال القاهرة، تغريم شركة الغازات البترولية «بتروجاس»، وهى الشركة التى خرجت من رحمها «تاون جاس»، لتتبع قطاع الأعمال والتى كانت مسئولة فى بدايات عمل توصيل الغاز الطبيعى للمنازل، مبلغ 130 ألف جنيه، بعد إدانتها بالإهمال فى تركيب عداد غاز طبيعى، نتج عنه احتراق شقة بمدينة نصر ووفاة مالكها بكرى عبدالجليل حسان (50 سنة) بالمعاش، الذى لقى مصرعه بعد نشوب حريق، بسبب تسرب كميات من الغاز، أثبتت التحقيقات أنها ناجمة عن أخطاء فى التركيب.

وفى مارس 2014، دعت النقابة المستقلة للعاملين بالشركة المصرية لتوزيع الغاز الطبيعى للمدن «تاون جاس»، عمال الشركة، الذين لديهم مستندات تثبت فساد أى مسئول بالشركة، بأن يتقدموا بها إلى النقابة وهى التى سوف تقوم بتقديم المستندات إلى المسئولين بطرق شرعية دون الإضرار بمصلحة الشركة، رافضة تشويه سمعة الشركة من خلال أحاديث وتصريحات بوسائل الإعلام عن وقائع الفساد (بيان رسمى).

فى مايو 2015، تقدم موظف بالشركة (رفض ذكر اسمه) للنائب العام ببلاغ يحمل رقم 1002 لسنة 2015، يتهم شركة «تاون جاس» باستيراد صفقة منظمات جديدة تالفة وغير مطابقة للمواصفات، وعوقب هذا الموظف الذى يحتفظ «معد التحقيق» بهويته، بنقل تعسفى وخصومات من مرتبه، وتهديد بالفصل من الشركة إذا عاود الحديث فى هذا الأمر مرة أخرى.

توصيلات مخالفة والرقابة غائبة

فى شارع ثابت إبراهيم، المتفرع من شارع التوفيقية، بالمطرية، كانت رائحة الغاز تفوح فى إحدى الشقق الكائنة فى الشارع، وبمجرد أن ضغط مالك الشقة على مفتاح الكهرباء، إذا بانفجار يهز الشقة، ليسقط صاحبها وثلاثة من أسرته مصابين بحروق نقلوا على أثرها للمستشفى، ووسط الزجاج المهشم، ومحتويات الشقة المبعثرة هنا وهناك، كانت المفاجأة التى كشفت عنها إدارة البحث الجنائى بوزارة الداخلية فى بيان رسمى لها صدر فى أعقاب الانفجار الذى وقع فى مارس 2016: «باستكمال الفحص تبين قيام مالك الشقة بتركيب بعض وصلات الغاز المخالفة، التى أدت إلى حدوث تسريب».

لم يكن عقار شارع ثابت إبراهيم وحده الذى حصل على توصيلات مخالفة للغاز، ولكن منطقتى المطرية وعين شمس تضجان بالعقارات المخالفة، التى ترفض الشركة أو الحى توصيل الغاز إليها، إلا بعد الحصول على موافقة، بعد معاينة تثبت صلاحية العقار، ورغم ذلك رصد «معد التحقيق» عدداً من العقارات المخالفة فى مناطق عمل شركة «تاون جاس»، تم توصيل الغاز لها دون موافقة الحى، مع صدور قرارات إزالة بحق 6 وحدات سكنية منها كائنة فى الدورين العاشر والحادى عشر بالعقار رقم 61 بشارع متحف المطرية بمنطقة عين شمس.

يكشف العدد الضخم للعقارات الموصل إليها الغاز بتوصيلات مخالفة، عن غياب الكشف الدورى على المناطق التى يتم توصيل الغاز الطبيعى إليها، ما يضع تلك المناطق فى خطر خاصة أن تلك الوصلات المخالفة تعتمد على خامات غير مطابقة للمواصفات تباع على الأرصفة فى العتبة وبعض منها يقوم به «سباكون» وفنيون غير عاملين بشركات التوصيل.

طه على، اسم مستعار لواحد من كبيرى فنيى توصيل الغاز يحتفظ «معد التحقيق» باسمه، خوفاً من عقاب قد يطوله من الشركة، يقول إن هناك مجموعات من الفنيين العاطلين عن العمل، و«السباكون» يتتبعون مسارات توصيل الغاز الطبيعى، خاصة فى المناطق القديمة التى يوجد بها الكثير من البنايات الآيلة للسقوط، ليعرضوا على أصحابها إجراء وصلات غاز من الوصلة الأم، وإن كانت هناك متابعة دورية للشركة لكشفت الأمر بسهولة، ولكن هذا لا يحدث.

غياب الكشف الدورى

بجلبابه الجنوبى جلس «عبدالحميد محمود» حارس البناية رقم 223 بالمعادى الجديدة ليستريح من عناء تنظيف البناية التى يعمل بها، لكنه شم رائحة غاز تتسلل من أروقة الطابق الأرضى الذى يجلس إلى جواره، ما دفعه لأن يتوجه على الفور مع زيادة الرائحة، ليفتح باب شقة فارغة تحولت لمحزن لأوراق وكراكيب للعمارة ليغلق المحبس الرئيسى داخلها، وبمجرد ضغطه على مفتاح الإنارة، إذا بالنيران تنفجر فى وجهه ليلتهمه اللهب، قبل أن يمتد إلى العقار نفسه، ثم يتسلل إلى شارع المعادى ليطول 10 سيارات بينهم واحدة مخصصة لنقل المواد البترولية، ما أدى إلى اندلاع سلسلة من الانفجارات، قبل أن تتمكن فرق الإنقاذ من السيطرة على الحريق الضخم الذى حول هدوء المنطقة إلى فوضى، وتسبب فى وفاة «عبدالحميد» حارس العقار، وإصابة بعض السكان بحروق بعد أن احتجزتهم النيران فى شققهم، وكشف التقرير المبدئى، للمعمل الجنائى أن النيران اندلعت بسبب تسرب كمية من الغاز.

لم يحدد التقرير موقع التسريب، لكن خالد الساكت، أحد ملاك العمارة المحترقة، قال إن الغاز الطبيعى موجود فى المنازل منذ التسعينات، ومنذ ذلك الحين لم تحدث أى محاولات للتفتيش والصيانة على المواسير والمحابس من جانب الشركة المسئولة، فقط تقوم بتحصيل الرسوم الشهرية لا غير، وهو ما أكده سكان 30 منزلاً فى المنطقة.

يعد الكشف الدورى واحداً من أهم الشروط التى وضعها البنك الدولى فى شروطه للحكومة المصرية لتمويل مشروعات توصيل خطوط الغاز الطبيعى للمنازل، حيث جاء فى البند الثانى الخاص بمؤشرات الأداء والمتابعة: «يجب على المشغلين أن ينفذوا برامج للتفتيش والصيانة الدورية وتحديث البنية الأساسية لتقليص انبعاثات الغاز الهاربة.

وبالإضافة إلى غياب الكشف الدورى، فإن محابس الغاز تحولت إلى مقالب للقمامة، رصدها «معد التحقيق» فى مناطق أرض اللواء وبولاق الدكرور، وفيصل بمحافظة الجيزة، والمطرية وعين شمس بالقاهرة، ما يكشف غياب متابعتها هى الأخرى، ما يهدد حياة ملايين المواطنين القاطنين فى تلك المناطق، وهو ما حدث حين اندلع حريق فى محبس الغاز الطبيعى بشارع مدرسة العاشر من رمضان فى عزبة إبراهيم بك بشبرا الخيمة، فى 5 أغسطس 2016، بعدما اشتعلت النيران فى القمامة التى تحيط به.

السخانات قنابل موقوتة

بينما كان محمود فاروق يجلس أمام محل البقالة الذى يعمل به، فى العقار الكائن بشارع على بن أبى طالب بمدينة نصر، إذا بأجزاء من حائط مهشم تسقط إلى جواره، تبعها صوت انفجار ضخم هز أجراء المكان، ومعه رائحة شديدة لغاز طبيعى فى كل أرجاء المنطقة، ومعها اشتعال النيران فى العقار، ما دفع السكان إلى مغادرته، فيما انتقلت النيران إلى سيارات كانت فى الشارع، وظلت النيران مشتعلة طوال ليلة كاملة رغم محاولات الحماية المدنية لإطفائها، فيما عرف «فاروق» أن سبب الحريق نتج عن تسريب غاز من السخان.

ومن مدينة نصر لبشتيل بالجيزة، هز انفجار ضخم أرجاء القرية، كان مصدره إحدى الشقق الكائنة فى الطابق السابع للعقار رقم 28 بشارع عبدالنبى مبروك، وظنه الجيران للوهلة الأولى عملاً إرهابياً، لكن تحريات المباحث الجنائية بمديرية أمن الجيزة، كشفت أن الحادث وقع نتيجة تسريب من سخان يعمل بالغاز الطبيعى.

فى مقر إدارة جهاز حماية المستهلك، تجلس مجموعات بجانب الهواتف تتلقى بلاغات وشكاوى من المواطنين، وترفعها لعاطف يعقوب، رئيس الجهاز، يقول إنه استقبل 5 بلاغات خلال عام 2016 بحرائق فى منازل مواطنين تسبب فيها سخان الغاز، مؤكداً أنه أحال الأمر برمته إلى هيئة الرقابة الصناعية للتحقيق فى الأمر، وبدورها شكلت لجنة لفحص الشقق محل الحرائق، بجانب فحص المنتجات التى تطرحها الشركات المصنعة للسخانات.

برأ رئيس مصلحة الرقابة الصناعية، إبراهيم المانسترلى، الشركات، واتهم الفنيين العاملين فى شركات توصيل الغاز الطبيعى بارتكاب أخطاء فنية فى التركيب، كانت سبباً -كما يقول- فى انتشار حرائق الغاز الطبيعى الناجمة عن تسرب من السخانات فى المراحيض كما جاء فى بيانات رسمية.

طالب عاطف يعقوب، رئيس جهاز حماية المستهلك، بتدريب متخصص للعمالة الفنية بشركات الغاز المسئولة عن أعمال التركيب والتوصيل للسخانات التى تعمل بالغاز الطبيعى بهدف رفع كفاءتهم الفنية، خاصة بعد أن شهدت المرحلة الماضية ظاهرة احتراق بعض أجهزة السخانات التى تعمل بالغاز الطبيعى عند الاستخدام.

مرسى عبدالله، اسم مستعار، لمشرف تركيب غاز طبيعى بشركة تاون جاس، ومسئول عن تسلم الوحدات من مقاولى الباطن، وافق على التحدث شريطة إخفاء هويته، قال إن عملية توصيل الغاز الطبيعى للسخانات، لا بد لها من عملية توسيع «الفونية» الخاصة بالسخان، لأن كثافة الغاز الطبيعى تختلف عن كثافة غاز الأسطوانات العادية، وعدم التوسعة بشكل مناسب، أو تغيير «الفونية» بالكامل، بأخرى خاصة بالغاز الطبيعى من الممكن أن يتسبب فى حدوث تسريب، وغالبية الفنيين العاملين فى شركات الباطن غير مدربين، وبالتالى لا يستطيعون التعامل بشكل سليم مع تلك الحالة، وهو ما يتسبب فى الحوادث.

الحصول على وظيفة فنى غاز طبيعى

لم يكلفنا الأمر أثناء إجراء التحقيق الصحفى فى عالم «الغاز الطبيعى» سوى اقتراض بدلة زرقاء تحمل شعار إحدى شركات الغاز الطبيعى، حصل عليها من أحد العمال الذى لا يملك سواها، ارتداها مسرعاً، لينضم لصفوف فنيى تركيب الغاز الطبيعى للمنازل، الذين يبدأون عملهم مبكراً فى السابعة صباحاً. فى إحدى أعرق المناطق التاريخية بوسط القاهرة، هكذا بكل سهولة تحول المحرر الصحفى إلى فنى تركيب غاز طبيعى، بل وعمل فى وظيفته ليومين كاملين، دون أن يكشف أمره أحد ودون أن يخضع لأى اختبار أو تدريب، ليكشف فى تجربته الموثقة بالصوت والصورة عن الكثير من المخالفات لشركات تعمل من الباطن فى توصيل الغاز الطبيعى، فى ظل غياب الرقابة من جانب الشركة الحكومية المشرفة عليها «تاون جاس».

لم تكن الموافقة للانضمام لصفوف فنيى تركيب الغاز الطبيعى تحتاج سوى مقابلة رئيس وردية العمل القابع داخل محل قديم مملوء بأدوات وعدد التركيب والخامات الملقاة يميناً ويساراً وجدرانه الملطخة بالشحوم، اتخذت منه الشركة مقراً لها، قدم أحد الفنيين القدامى بالشركة، معد التحقيق لرئيس المجموعة، الذى يطلقون عليه اسم «فورمن»، قائلاً له إن «معد التحقيق» تربطه به صلة قرابة، وانقطع عيشه من عمل قديم لا صلة له بتركيب غاز: «عايز يتعلم الشغلانة وياكل لقمة عيش»، وافق الرجل على الفور دون تردد، طالباً من معد التحقيق أن يعمل اليوم على أن يتوجه للشركة غداً ويخبرهم أنه من طرفه، ومعه شهادة ميلاده وآخر مؤهل دراسى حصل عليه، ليتم تسجيله حتى يتسنى له صرف راتبه الشهرى، سأل معد التحقيق «الفورمن»: «هل من اختبار؟»، رد: «هتتعلم بالممارسة وشغلتنا سهلة ومش محتاجة علام».

لم يكن معد التحقيق وحده الذى ساعده هذا الفنى للانضمام للشركة دون تدريب أو اختبار، كان إلى جواره ابن شقيقه، الذى يعمل مساعد فنى تركيب، وبحسب رواية الشاب فإنه لم يكن على دراية بـ«الشغلانة من الأساس»، ولم يكن يعرف حتى طريقة مسك الـ«مفك»، غير أنه تعلم بالممارسة: «خالى هو اللى دخلنى المجال من سنة وكنا شغالين فى الأول فى شركة تانية خالص اتعلمت هناك وجيت هنا وأنا شارب الشغلانة، وكده كده لا حد بيسأل أنا باعرف إيه ولا أى حاجة».

يعد عدم تدريب فنيى توصيل خطوط الغاز الطبيعى أولى المخالفات التى رصدناها خلال تلك التجربة، وهو شرط وضعه «البنك الدولى» فى إرشاداته للحكومة المصرية، خلال دعمه لمشروعات توصيل تلك الخطوط، حيث نصت تلك الإرشادات على: «تدريب العاملين والأفراد المتعاقد معهم»، وهو أحد شروط الحفاظ على الأرواح من الانفجارات الناجمة عن تشققات غير مقصودة أو مقصودة بخطوط الغاز.

يتدرج الفنى من مساعد فنى، إلى فنى إلى رئيس وردية، «إحنا اللى بنجيب الصنايعية» يقولها الفنى، مؤكداً أن العمل لا يتطلب خبرة: «لا يوجد تدريب، ولا عمرنا سمعنا عن قصة الدورات التدريبية لرفع الكفاءة إحنا مش عايزينها، والشركة مش هتسمح بيها عشان هما عايزين يدخلوا الغاز لأكبر قدر ممكن من العمارات وإحنا كذلك».

يمر توصيل الغاز الطبيعى للمنازل بثلاث مراحل مقسمة على ثلاث مجموعات عمل، المجموعة الأولى، وهى مجموعة «الشبكات الأرضية»، والمختصة بتوصيل مواسير الغاز الطبيعى فى الشوارع العمومية والشوارع الجانبية، والمجموعة الثانية هى مجموعة «التركيبات» المختصة بتركيب مواسير الغاز الطبيعى للمنازل، والمجموعة الثالثة «التحويلات» أو «البرج»، وهى المخول لها فتح الغاز الطبيعى فى المواسير، والمجموعة الرابعة والأخيرة هى مجموعة «التوصيل الداخلى» وهى المجموعة المسئولة عن التوصيل للسخانات والبوتاجازات، وتسليم الشقة بعد إنهاء العمل للعميل، وقد انضم معد التحقيق للمجموعة الثانية الخاصة بالتوصيلات فى البداية وسرعان من انتقل للمجموعة الثالثة.

إلى جانب «محمود حامد» اسم مستعار لأحد فنيى الغاز، يعمل فى المهنة منذ تسع سنوات، عمل معد التحقيق خلال يوم كامل، البداية كانت من بناية غير موصل لها الغاز، بدأت المعاينة لتحديد مسارات المواسير ومسافات التوصيل، سواء عبر «المنور» أو السلم أو من خلال الشرفات، يتحرك الفنى نحو الطابق الأرضى، تفتح له سيدة المنزل، تعرفه عن قرب، بأسارير منفرجة تستقبله: «أخيراً جه علينا الدور فى التوصيل»، يبدأ فى معاينة «المنور»، بعد المعاينة يقول «مناسب».

تنص المواصفات الفنية لتركيب الغاز الطبيعى، وهى مواصفات إنجليزية، أضيف لها بعض الإدخالات المناسبة لطبيعة المنازل والشوارع المصرية، على ألا تمر مواسير الغاز الطبيعى إلى جوار مواسير توصيل الكهرباء، وأن تبعد عنها بمسافة ما بين 30 و40 سم على الأقل، وتغطية هذا الجزء من مواسير الغاز بماسورة بلاستيكية.

ولكن حامد وزملاءه الفنيين لا يلتزمون بذلك بالضرورة، فلا يمتلك العاملون «مجسات» لكشف أماكن «الكابلات» الكهربائية داخل الحوائط أو أى أجهزة أخرى تمكنهم من ذلك، وبالتالى لا يستطيعون تنفيذ أهم توصيات توصيل الغاز الطبيعى، حيث يضطر العامل لعدم وجود تلك الأجهزة الحديثة إلى الاعتماد على النظر بالعين المجردة، وهى لا تكشف كل شىء حيث تسير مواسير الكهرباء داخل الحائط، وفى بعض الأحيان تكون ظاهرة أمامهم المواسير ويضطر لتمرير الغاز بجوار الكهرباء: «أنا بدخل ساعات خطوط الغاز فى قلب مواسير الكهرباء».

يتعارض عدم وجود أجهزة متطورة لكشف وصلات الكهرباء مع اشتراط البنك الدولى بضرورة: «توفير الأدوات والأجهزة المناسبة للعاملين فى توصيل الخطوط»، وهو البند المدرج بالقسم الخاص بالتعرض للتسريبات، أما عدم الكشف عن توصيلات الكهرباء فيتعارض مع الشرط الخاص ببند الصعق الكهربائى الذى ينص على: «ينبغى رصد وتحديد بدقة موقع كافة المرافق الأرضية ذات الصلة بخطوط نقل الكهرباء المدفونة فى الأرض أو المعلقة فى الهواء، لتجنب تعرض العمال والمواطنين للمخاطر».

يقول «حامد» إن النقص فى العدد يتسبب، بعد وضع أساس المواسير والمسارات المرتبطة ببعضها البعض، فى أن يكتشف الفنى وجود كابل كهرباء أو ماسورة فى الحائط خلال التثبيت أو فتح جزء من الحائط للتمرير «طبعاً مش هعيد الشغل من الأول، بمرر بسرعة وأمشى، وماحدش شايف حد ولا فيه رقابة.. أنا شغال بالإنتاج عشان أأكل عيالى لازم أخلص أكبر عدد ممكن من التوصيلات فى اليوم»، يؤكد زملاؤه كلامه، ويضيف: «والله العظيم أنا ممرر ماسورة غاز فى قلب خرطوم مليان مواسير كهربا».

يشرد ذهن «حامد» قليلاً ويتوقف عن الحديث لحظة ثم يعود ليقول إن تلك المسألة كانت سبباً فى وفاة ابن عمته، كان شاباً فى أواخر العشرينات يرافقه فى عمل، ثم استقل بعد ترقيته لفنى، وخلال توصيل مواسير الغاز الطبيعى لأحد المنازل، وأثناء محاولة فتح ثقب بالحائط لتمرير أحد المواسير، قابله كابل كهرباء صعقه على الفور ومات محترقاً، يتمالك «حامد» نفسه ويبدو عليه الغضب، فالشركة لم تتكفل بأى مصاريف وتنصلت من مسئوليتها تجاه قريبه.

يشعر «حامد» دائماً بالذنب الذى اقترفه حينما ساعد ابن عمته فى الالتحاق بتلك الوظيفة المميتة: «أنا اللى دخلته الشغلانة دى»، يقول الشاب الثلاثينى إنه لا يستطيع زيارة عمته منذ الحادث، فكلما شاهدته تتذكر ابنها المتوفى وتبدأ فى البكاء، ويرفض من وقتها مساعدة أى من أفراد أسرته للالتحاق بتلك المهنة التى يصفها بـ«مهنة موت».

تعرُّض أحد العمال للصعق الكهربائى يتنافى مع شرط البنك الدولى الخاص بمعدل الحوادث، والذى أقر بـ«ينبغى أن تسعى المشروعات إلى الحد من الحوادث، التى يتعرض لها عمال المشروع سواء كانوا معينين أو متعاقدين من الباطن لتصل عدد تلك الحوادث إلى صفر».

معاناة أخرى تواجه الفنيين، وهى عدم توافر الأمن الصناعى للحفاظ على حياتهم خلال العمل الذى تظهر فيه نسبة كبيرة من الخطورة، يشير «حامد» بسبابته نحو قدمه التى يضعها فى حذاء قماش ضعيف، يقول إنه بمجرد إصابة أى منهم تتنصل الشركة من مسئوليتها عن علاجه، بحجة أنهم عمالة مؤقتة ولا يمتلكون عقوداً دائمة مع الشركة، حيث يتعاملون بالإنتاجية وليس بأجر دائم.

بعد إجراء القياسات، يثقب «حامد» الجدران بـ«شنيور» ضخم، يتوجه بعدها للورشة، لينتقل العمل إلى حيث يجلس مدير المشروع، ومدير الوردية، هناك يتم تقطيع مواسير الغاز، أو كما يقول حامد «قلوظتها على ماكينة القلوظة الضخمة» ذات الصوت العالى، يعرّف «حامد» الشخص المسئول عن تسليم الخامات على معد التحقيق قائلاً: «ده فنى جديد معانا هبعتهولك يستلم هو المواسير بعد كده»، يرد الرجل بكل أريحية: «ماشى يا باشا ييجى فى أى وقت».

إلى المبنى السكنى مرة أخرى يعود «حامد» للعمل بعد تحضير المواسير، يمررها «حامد» من المنور، مستخدماً سقالة من الحديد، تهتز من أى حركة، يحاول الحفاظ على توازنه، محذراً «معد التحقيق» للتحرك عليها ببطء، يستغل «حامد» فترة قيام الفنى بتربيط المواسير ببعضها البعض، ويقول إن وجود العديد من «الكيعان» والوصلات فى خطوط التوصيل، يزيد من احتمالات التسريب، حيث يفضل أن تقل المنحنيات، إلا فى حالات الضرورة القصوى، وفى المنحنيات تكون الأولوية والأفضلية لعمل «كسح» أى «لىّ» للمواسير بلغة الفنيين، على استخدام «الكيعان» للماسورة دون إحداث بها أى كسور أو ثقوب، ولكن فى بعض المناطق لا سبيل إلا استخدام «الكيعان» لاستمرار التوصيل.

وفى الغالب تكون «الكيعان» والمنحنيات هى الوسيلة الأسهل للفنيين عديمى الخبرة وتعد ضعفاً كبيراً وخطأ فى التركيب والتوصيل، حسب «حامد»: «الناس عايزة تستسهل، يقطعوا مواسير وكيعان ويخلصوا، وهى مسألة استسهال وإمكانيات على القد ومفيش تدريب».

يحل الليل على «حامد» ومعد التحقيق، والعمل لم ينته، وتنص الشركة وقوانينها على ضرورة العمل نهاراً، وإيقاف عملية التوصيل ليلاً، ولكن هذا لا يحدث نظراً لارتباط العمال بالعمل بنظام الإنتاجية، التى تدفعهم لإنهاء أكبر قدر ممكن من التوصيلات فى اليوم الواحد، والعمل لساعات متأخرة من الليل.

يطلب من كل فنى توصيل الغاز لـ100 شقة كحد أقصى، خلال الشهر الواحد وإن قل الفنى عن 15% من ذلك العدد لا يستطيع أن يتحصل على راتبه الأساسى كاملاً، يقول «حامد»: «وده اللى بيخلى أى عامل عايز ينجز ويعمل الشقق بسرعة، وتنتج عنها الأخطاء التى بتظهر فى كل شقة»، ويضيف «حامد» أن «المرتب الثابت 1000 جنيه، وعلى كل شقة 60 جينهاً، ويربط الثابت بـ15% من الإنتاج».

مع الساعة الحادية عشرة ليلاً، ينتهى اليوم، ويبدأ العمال فى التجمع، لقضاء ساعة على المقهى قبل النوم فى شقة صغيرة استأجرتها الشركة لهم. وفى صباح اليوم التالى يبدأ العمل من جديد، يتوجه معد التحقيق برفقة «حامد» و«سيد محمد»، اسم مستعار لفنى آخر قرر أن يساعد فى العمل فى تلك البناية، يخرج «سيد» جهاز «Test pump» وهو المسئول عن قياس الضغط فى المواسير لكشف وجود أى تسرب من عملية التركيب داخل البناية، ولكن المفاجأة أن الجهاز لم يظهر أى شىء سواء بالسلب أو بالإيجاب: «العِدد والأدوات اللى بنشتغل بيها متهالكة، وغالبية الأجهزة خربت وما سلموناش غيرها، ومعظم المواسير بتتاكل وإحنا شغالين بيها، وما بنقدرش نكشف على التسريب إلا بالطرق البدائية» يقول «سيد».

انتصف النهار، واضطرت المجموعة للتوقف عن العمل فى انتظار المهندس المسئول عن معاينة المنازل من شركة «تاون جاس»، حتى وصل المهندس إلى المقهى، الذى يجلس عليه الفنيون، احتسى كوباً من الشاى وسأل الفنيين: «ها يا رجالة كله تمام»، رد الجميع: «كله تمام»، على الفور تحرك إلى أحد المنازل، مر على شقة بالطابق الأرض، ونظر على توصيلاتها، وقبل أن يكمل أنهى جولته سريعاً بقوله: «شغل الله ينور يا رجالة»، وانصرف بعد أن طالب الفنيين باستكمال التوصيل للأجهزة وتسليم الشقق.

يتسلم المهندس مسئول الإشراف الفنى العمل من المجموعة الثانية «التوصيلات المنزلية»، ليعطى إشارة توصيل الغاز للمنازل، ولكن حسب رواية «سيد» فإن المهندس يأتى نصف ساعة فى اليوم، وفى بعض الأحيان يكون التسليم مجرد سلام واحتساء كوب من الشاى والاطمئنان على العمل من أفواه الفنيين بدون معاينة للمنازل.

قرر «معد التحقيق» الانتقال للمجموعة الرابعة والأخيرة، وهى المختصة بالتوصيل للمواقد والسخانات داخل المنازل وتسليم العميل الخطوط بعد اختبارها. «على متولى» اسم مستعار لأحد العاملين من المجموعة، رافقه معد التحقيق خلال العمل طيلة اليوم الثانى، ينتقل معه من منزل لآخر، يقوم بإنهاء وصلات الغاز للسخانات والبوتاجازات، ولكن دون مراجعة وجود تسريب من الوصلات التى قامت بها مجموعة التوصيل من عدمه، كل همه خلال العمل هو إنهاء وصلات والحصول على إمضاء العميل فقط لا غير، ويقول: «كان ليا مدير باشتغل معاه فى شركة قبل دى، دايماً يقول لنا فيه قاعدة فى شغلنا: لا شىء يمنعك عن تحويل الغاز حتى عدم وجود الغاز من الأساس، أنا بوصل الغاز حتى لو الشقة فيها مشكلة، مش قصتى، أنا بوصل وخلاص حتى لو الشقة فيها تسريب.. حتى لو الشقة والعة».

بجسده النحيل، وبدلته الملطخة بالشحوم، دخل «متولى» أحد المنازل مسرعاً بصحبة معد التحقيق، لم يكن بها إلا شقة متعاقدة فى الطابق الأخير، بدا صاحب الشقة ودوداً للغاية، طلب من زوجته تقديم الشاى للفنيين، نظرة واحدة من «متولى» داخل الشقة كانت كفيلة ليكتشف نارجيلة موضوعة بجوار أحد المقاعد، انفرجت أساريره وهو يسأل صاحب الشقة: «انت عندك شيشة؟» جاءه الرد فى صورة سؤال: «أنت ينفع تشيش وأنت شغال»، قال بكل لهفة: «وإيه المشكلة يا باشا، هات بس ولعة ومعسل عشان نعرف نظبط الشغل».

فى المطبخ بدأ «متولى» فى توصيل الغاز بالبوتاجاز القديم المتهالك، فى الوقت الذى أحضرت له زوجة صاحب الشقة «الشيشة» إلى جواره، راح يسحب منها أنفاساً تلو الأخرى، وهو يجرى عمليات توسعة الوصلات، واختبار توصيل الغاز الطبيعى، مستخدماً ولاعة كان يقربها من البوتاجاز، نظراً لأن جهازه الخاص باختبارات التوصيل داخل الشقق السكنية تالف، حسب قوله.

يعد تدخين الشيشة خلال توصيل الغاز، أمراً يتنافى مع إرشادات وشروط البنك الدولى، حيث أوصى فى البند الخاص بالتقنيات الموصى بها للحد من تسريب الغازات: «إزالة أى مصادر للاشتعال قبل تفريغ الغاز من أجل الإصلاح والصيانة أو قبل القيام بأى أعمال قطع أو توصيل أو لحام فى خطوط الغاز الطبيعى».

يخرج «متولى» من حقيبته عبوة من معجون مانع التسريب، يفتحها ليفاجأ بتلفها، لا يستطيع أن يعيدها لمدير المهمات مرة أخرى: «هيحملنى تمنها ويقول لى أنت اللى بوظتها عشان مايتحملش هو تمنها رغم أنى مستلمها النهارده الصبح»، يقول «متولى» إنه كثيراً ما يقابل عبوات معجون مانع تسريب تالفة، وتعلم منذ أن كان مساعد فنى أن يقوم بتسخين محتويات العبوة التى تحولت لكرات حجرية على النار، حتى تعود لأصلها كسائل لزج، ويستخدمها وكأن لم يكن، احتفظ معد التحقيق بتلك العبوة، وحاول تحليلها لإثبات فساد المادة المستخدمة فى منع التسريب، ولكن مصلحة الكيمياء رفضت تحليلها بعد أن علمت أنها تعود لشركة توصيل الغاز الطبيعى.

المواجهة

بمواجهة محمد عبدالعال، الرئيس السابق لقطاع المشروعات بشركة «تاون جاس»، نفى أن يكون قد تسلم خلال فترة مسئوليته عن المشروعات بالشركة، وهو المنصب الذى تركه قبل تسعة أشهر، أى خطوط توصيل للغاز الطبيعى تعتريها عيوب أو مخالفات فى التوصيل.

ولكن «عبدالعال» فى الوقت نفسه لم ينف وجود مخالفات من جانب شركات الباطن المملوكة لقيادات سابقة بقطاع الغاز الطبيعى بوزارة البترول، واصفاً ذلك الأمر بـ«الكارثة»، وقال إنه تصدى للعديد من محاولات تمرير بعض المخالفات فى التوصيل وقعت من جانب الشركات العاملة من الباطن، ويجد أن هذا هو السبب الرئيسى فى إزاحته عن منصبه، واصفاً شركات الباطن بأن «إيديهم طايلة جداً فى القطاع».

سيف الإسلام عبدالفتاح رئيس شركة «تاون جاس» الأسبق، الذى أسس بعد إحالته للمعاش عام 2013 شركة خاصة لتوصيل الغاز من الباطن، رفض فى البداية الاعتراف بوجود أى أخطاء سواء من جانب شركة «تاون جاس» أو الشركات الخاصة العاملة من الباطن، وقال إن خطوط الغاز الطبيعى آمنة بنسبة 100%، وأن المواصفات القياسية التى تعتمدها الشركة القابضة لا تسمح بأى نسبة خطأ، وأن نسبة الخطأ تصل 0%، وأن أى تسرب للغاز الطبيعى فى مصر نتج عن أخطاء فى الاستخدام من جانب المواطنين وليس أخطاء فى التركيب، بل قال بشكل قاطع: «حتى هذه اللحظة التى نجلس فيها لم يحدث مطلقاً حادث واحد تسببت فيه مشاكل أو عيوب فنية فى تركيبات خطوط الغاز الطبيعى».

وجزم «عبدالفتاح» أن عمليات تركيب الخطوط تخضع لإشراف من جانب الشركات الحكومية مثل «تاون جاس»، تراقب بشكل مستمر على تنفيذ المواصفات الفنية، بل إن الفنيين لهم مواصفات: «ماينفعش أى حد كده يشتغل فى التركيب بدون ما يكون متدرب على أعلى مستوى»، بجانب مواصفات للعِدد والأدوات المستخدمة.

وعن التركيبات المخالفة قال إن مجموعات المراقبة والكشف الدورى فى شركة «تاون جاس» لديهم ضبطية قضائية، لإيقاف أى محاولة للتركيبات المخالفة بعيدة عن الشركة، كما قال إن هناك شروطاً يجب توافرها فى الفنيين العاملين فى شركات القطاع العام أو الخاص، تلزم أى فنى جديد بالدخول لمركز تدريب بشركة غاز مصر أو «تاون جاس»، ثم يخضع لمرحلة اختبار، ومن يمر بنجاح من تلك الاختبارات والتدريبات يكون مؤهلاً للعمل فى خطوط الغاز.

«عبدالفتاح» الذى تحصل شركته الخاصة على حق توصيل الغاز الطبيعى من الباطن فى مناطق سيطرة «تاون جاس»، فوجئ بما عرضه «معد التحقيق» عليه من مخالفات رصدتها من حالات وثقتها، وتغيرت لهجته الواثقة، للهجة مترددة، رافضاً تلك المخالفات، وبدا متراجعاً عن حديثه فى البداية، وقال: «دى طبعاً مصايب.. وكارثة حقيقية لأن شغلتنا بتتعلق بأرواح المواطنين ولا تهاون فيها».

بدا تراجع «عبدالفتاح» واضحاً، تراجع عن كل تأكيداته، ولم يتمسك إلا فقط بأن شركة «تاون جاس» لم يكن بها أى أخطاء فى عهده، حتى عام 2013، ولكنه قال بصوت هامس: «للأسف الإنتاجية طغت على الكفاءة»، واعتبر ما رصدته «معد التحقيق» كارثة يجب التحقيق فيها.

وصف «عبدالفتاح» شركة المقاولة من الباطن التى عمل بها «معد التحقيق»، بأنها «شركة زبالة» تعمل بدون أى ضوابط، فى ظل غياب الرقابة من الشركة صاحبة الامتياز، ويعتمدون عن الإنتاجية، ويقول إن ما رصده المعد من العمل بعد الخامسة عصراً، هو مخالف لقواعد الشركة، ويدل على عدم وجود إشراف سواء من رئيس الوردية «الفورما» أو مهندس شركة «تاون جاس»، وأن غياب الرقابة يزيد من الأخطاء فى التركيب، ويؤدى لكوارث وحوادث كبرى، تزيد وتيرة الحرائق، وهذا ناتج عن زيادة الاهتمام بالإنتاجية عن الكفاءة، كما أقر بأن استقبال مقاول الباطن لمعد التحقيق بدون تدريب أو تأهيل خلل إدارى يؤدى إلى خلل فنى.

حاول معد التحقيق التواصل مع المهندس ياسر بهنس، رئيس شركة «تاون جاس»، غير أنه تهرّب من اللقاء على مدار أسبوعين كاملين، ورفض الرد على التحقيق بشكل قاطع قائلاً: «مش هرد على حاجة وعايز تنشر انشر»، رغم الحصول على موافقة رسمية من المتحدث الرسمى لوزارة البترول.

كما أرسل معد التحقيق «e-mail» رسمياً على البريد الإلكترونى للشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية «إيجاس» التابعة لها «تاون جاس»، تضمن طلب الرد على الأسئلة الخاصة بالتحقيق، قبل النشر بأسبوع، ولم يتم الرد، كما أرسل «e-mail» آخر يطالب بالرد من جانب شركة «تاون جاس»، ولم يكن هناك أى رد.



تعليقات