بروفايل| الحسينى أبوضيف.. ورقة من الحقيقة



ببشرته السمراء، وملامح جنوبية، يعدّل من وضع الشال الفلسطينى الذى لا يبرح عنقه، وذراعه الأخرى قابضة على كاميرا جديدة ما زالت تحتفظ برونقها، وعيون شاخصة وسط الأحداث.. يلتفت يميناً ليصور أحدهم ممسكاً بسلاح مطلقاً النيران، يتجه يساراً ليصور التهافت على الضرب المبرح لمتظاهر.. يراقب الحسينى أبوضيف، صحفى «الفجر» المشهد، يصور كل أحداث اليوم الدامى، بالقرب من قصر حكم الجماعة.

 «أرى فى العيونِ العَميقةِ.. لونَ الحقيقةِ.. لونَ تُرابِ الوطنْ» أمل دنقل قصيدة «ضد من».

يشتد الصراع، ينتصف الليل، تتجاوز الساعة الواحدة صباحاً، يكتفى الحسينى بما التقطه من صور، يلتقى أحد رفقائه، يخطوان سوياً نحو شارع الخليفة المأمون، يصاب فى يده بإحدى طلقات الخرطوش، لكنه لا يبالى.. يأخذ استراحة محارب على المقهى.. يجلس، وبرفق يضغط بسبابته على «زرار» الكاميرا يقلب الصور بزهو.. بنادق ولحى كثة، ورصاصات غادرة هنا وهناك.. يتجه مرة أخرى لمسرح الأحداث بالخليفة المأمون.. ما زال قابضاً بساعديه على الكاميرا، يرفع عينيه، ليبصر المشهد بوضوح، يرمقه أحدهم، يتحرك بسرعة ويبدأ فى التصويب نحوه.. رصاصات الغدر تخترق رأسه، تسقط نظارته، يسقط أرضاً غارقاً فى دمه بين الحياة والموت.. تختفى الكاميرا وما عليها من مشاهد للأحداث الدامية التى انطلقت بعدما أصدر الرئيس المعزول محمد مرسى إعلاناً دستورياً مجحفاً ليوسع به سلطاته.

 «يا قاتلى: إنّى صفحت عنك.. فى اللّحظة التى استرحت بعدها منّى: استرحت منك.. لكنّنى.. أوصيك إن تشأ شنق الجميع.. أن ترحم الشّجر.. لا تقطع الجذوع كى تنصبها مشانقَ.. لا تقطع الجذوع.. فربّما يأتى الربيع والعام عام جوع».. أمل دنقل. 

رُفع ابن محافظة سوهاج على الأعناق نحو المستشفى، من «عين شمس التخصصى» مروراً بالدمرداش، الكل يرفض استقباله، وحتى الوصول لمستشفى الزهراء الجامعى ليسكن داخل غرفة العناية المركزة، فى غيبوبة دامت لثمانية أيام، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ظهر يوم 12 من شهر ديسمبر بمستشفى قصر العينى متأثراً بإصابته، صاحب 26 ربيعاً.

«فى غُرف العمليات.. كان نِقابُ الأطباء أبيضَ.. لونُ المعاطف أبيض.. تاجُ الحكيماتِ أبيضَ، أرديةُ الراهبات.. الملاءات.. لونُ الأسرّةِ، أربطةُ الشاشِ والقُطْن.. أُنبوبةُ المَصْلِ.. كلُّ هذا يُشيعُ بِقَلْبى الوَهَنْ.. كلُّ هذا البياضِ يذكِّرنى بالكَفَنْ!.. فلماذا إذا متُّ».. أمل دنقل. 

الكل خرج متشحاً بالسواد، الكل يجفف الدموع، الآلاف من أمام نقابة الصحفيين يشيعون «أبوضيف» خريج كلية الحقوق جامعة أسيوط، الذى منح صوته لـ«مرسى»، فى جنازة تتحول لمظاهرة رفض لنظام، لم يكمل العام حتى سقط، الكل فى نفس واحد يكررها يكملها، كانت الاستجابة لطلب الحسينى الذى دونه قبل نزوله للأحداث صباح يوم 5 ديسمبر «هذه آخر تدوينة قبل نزولى للدفاع عن الثورة، وإذا استشهدت لا أطلب منكم سوى إكمال الثورة نقطة».

تعليقات