علامات الدهشة والريبة، وعيون شاخصة تسبق كلماتهم التحذيرية: «إيه اللى موديك هناك.. ربنا يسترها عليك»، وأخرى تسبقها ابتسامة ساخرة: «تلاقيه جاى يدفع دية واحد مخطوف»، تعبيرات تستقبلك على أبواب القرية بمجرد أن تنطق باسمها وقبل حتى طلب معرفة طريق الولوج لـ«أبوحزام» التابعة لمركز نجع حمادى بمحافظة قنا، التى شهدت تجدد المعارك الثأرية بين عائلات العرب والهوارة، بسبب خلاف على قطعة أرض. «الوطن» زارت القرية التى تحولت إلى ساحة حرب، رغم معاناتها من الثأر والفقر والسيول التى تهددها كل عام، دون وجود سدود تمنعها، ورصدت خريطة الصراع الدموى بين «العرب» و«الهوارة» أعرق قبائل قنا، والمكونين الرئيسيين لها، الذى بدأ فى نهاية الأربعينات من القرن الماضى، وتسبب فى مقتل وإصابة المئات من أبنائها حتى اليوم، خاصة فى مركز دشنا، والتناحر بينهما تشعله لفظة أو كلمة أو صراع على قطعة أرض أو خلافات ثأرية.
الطريق إلى «أبوحزام» لا يختلف عن طبيعتها، متعرج، متهالك، وغير صالح للاستخدام، تنتشر به الحفر والمنحنيات، وينتهى إلى مدق ترابى شديد الضيق تحده زراعات القصب من جانب وبيوت تتنوع ما بين الطينية الفقيرة وما بنى بالطوب الأبيض وشُيد قلاعاً وقصوراً عالية من الجانب الآخر.
تلاحقك نظرات التوجس والخوف، كلما تقدمت فى طريق القرية أكثر فأكثر، النساء متشحات بالسواد يجلسن أمام منازلهن، يتابعن الأغراب بنظرات حادة، وصبية يقودون دراجات بخارية مدججون بالسلاح، والمارة من الرجال يحملون على أكتافهم البنادق الآلية، ويتأبطون حقائب جلدية مطرزة بالمسامير اللامعة مملوءة بالذخيرة الحية. ونادراً ما تجد أحد أبناء القرية مترجلاً فيها دون سلاح، فـ«أبوحزام» التى تبعد ما يزيد على 20 كيلومتراً عن مركز نجع حمادى، ما يعضد الوضع المتأزم بين عائلات العرب والهوارة، هو غياب الأمن وإغلاق أقرب نقطة شرطة، التى تقع فى قرية «حمرا دوم» المتاخمة لها، وهو ما ساهم فى تأزم الصراعات الثأرية هناك، فلا يمر الشهر دون أن يسقط واحد من الأهالى ويُوارى بين أعواد القصب، والقرية هى أشبه بساحة حرب ومعارك، تتجدد من حين إلى آخر، وكانت آخرها بسبب تجدد الخلاف على قطعة أرض مساحتها 3 أفدنة ونصف، استخدم الطرفان فيها الأسلحة الثقيلة ولم تحرك فيها الشرطة ساكناً كعادتها.
يعيش فى القرية 4 عائلات تنتمى لنسل قبيلة الهوارة وهى: عائلة السعدية، وعائلة الهمامية وعائلة الطوالب، والدجاجية، وفى مواجهتهم العوامر والمرجية والسرايرة، ينتمون لنسل قبيلة «العرب»، ويزيد عدد سكان قرية «أبوحزام» على 4 آلاف نسمة، يعمل أهلها على تربية المواشى، وزراعة قصب السكر فى حضن الجبل، وبين جنبات أعواد شاهقة الطول، يجدون ضحايا الثأر، أحدهم مخنوقاً أو مضرجاً فى دمه بعدما أصابته رصاصات الغدر، وكان آخرها صبياً لم يتعد عمره 19 عاماً من عائلة السعدية، وجده والده ملفحاً بشال من الصوف فى حقول القصب.
بجسده الممتلئ، وشاربه الطويل، وجلبابه الأسود، يقف أمام منزله الطينى، عبدالجواد فايق، 53 عاماً، من عائلة السعدية، وبصوت هادئ ممتعض يقول لـ«الوطن»: «القرية هنا فى قلق طول الوقت وحتى أيام المدارس العيال ما بيروحوهاش»، فمدارس القرية فى محيط بيوت عائلة العوامر، ولم تفت أيام قليلة على تجدد الخصومة الثأرية بينهما: «كده العيال مش هتتعلم»، ولا يجد غضاضة فى دخول الأمن للفصل بين العائلتين: «بس ما ياخدوش عاطل على باطل، الحكومة لما بتنزل البلد بتقتل أى حد لمجرد إنه شايل سلاح والبلد مفيش حد بيمشى من غير سلاحه».
عبر ممر ضيق، يخص عائلات «الهوارة»، فطرق القرية مقسمة بين العائلتين، ولا يسمح لأحدهم باختراق طريق الآخر وإلا تعرض لرصاصات لا ترحم، فى نهايته تجد قرية «حمرا دوم» الملاصقة لأبوحزام، وتعد امتداداً لها فى الصراع الثأرى بين «العرب» والهوارة» والفقر المدقع، وتتماهى فيها الأراضى والعروق والأنساب، فلا تستطيع التفريق بين منازل القريتين.
وعلى مشارف القرية مبنى من طابق واحد، له بوابة حديدية كبرى مغلقة، ومن فوقها تظهر أطلال لافتة «نقطة شرطة حمرا دوم»، وإلى جوارها يقف رجل نحيل، يسرح الشيب فى رأسه، ويرتدى جلباباً مهترئاً، ممسكاً ببندقية قديمة وتظهر عليها علامات الصدأ، فـ«صبرى محمود» أحد الخفراء المسئولين عن حراسة نقطة الشرطة الخاوية على عروشها، لا يوجد سواه، وآخر يجلس بالداخل، ويقول: «مفيش هنا ضباط ولا فيه حد»، لا تمر الدقائق حتى يعبر من بوابة نقطة الشرطة صبى لا يتعدى عمره 17 عاماً، ممسك بإحدى البنادق الآلية الحديثة، ولكن لا يعيره الخفير اهتماماً، ويقف الصبى إلى جواره ويقول بكلمات مقتضبة: «مفيش حد هنا كبير وصغير ينفع يمشى فى القرية بدون بندقية»، ويقطع الخفير حديثه بعدما انتفخت أوداجه، وتملكت العصبية منه: «إحنا هنا مينفعش نسيطر على المنطقة، معناش لا مدرعة ولا بوكس حتى، وكل السلاح اللى فى النقطة قديم جداً وميقدرش على القدرة غير ربنا».
وبعصبية مفرطة يصر «صبرى» على أن النقطة ليست مغلقة: «مفتوحة على طول، أمال أنا فيها بعمل إيه، ولو فيه مدرعة واحدة بس تلاقى الأمن استتب هنا»، يرفض الرجل دخول أحد للنقطة، ويقول: «التعليمات عندنا ماندخلوش حد جوه.. بس هى شغالة»، ويرفع يده بإيماء للصبى حامل السلاح: «لو فيه بوكس فاضى هنا مش هتلاقى واحد معاه سلاح زى كده»، وعلى مبعدة من جلسة بجوار النقطة، يتلاعب أطفال القرية بعدد من «الجريد» الذى شكلوه على هيئة بنادق، يرفعها الطفل بانتشاء وسعادة، كما لو أنهم يتدربون على حمل السلاح كأقرانهم فى القرية من الصبية.
فى داخل منزله المتاخم لجبال الصحراء الشرقية، فى وسط قرية «أبوحزام»، عبدالجواد عبدالرحيم، صاحب 55 خريفاً بجلبابه المهندم، وشاله الصوف الفاخر، يقف منفرج الأسارير، فالصراع الدائر داخل القرية لم يمنع الرجل من الاستعداد لكتب كتاب ابنته على نجل عمها «ياسر».
بدا منزل «عبدالجواد» يضج بالرجال المدججين بالأسلحة من المدعوين لكتب الكتاب: «الراجل هنا ممكن يبيع البقرة اللى بتأكل عياله عشان يشترى حتة سلاح يدافع بيها عن نفسه»، يقولها الرجل العجوز، مشيراً إلى أن جميع بيوت القرية مملوءة بالأسلحة: «سلو بلدنا كده.. التار مخلاش حد آمن فى بيته ولا هو ماشى حتى فى الشارع.. ولو فيه حكومة فى البلد مكناش لجأنا للسلاح والهم ده».
تحقيق الأمن بالقرية مرتبط لدى عبدالجواد بعودة الشرطة مرة أخرى: «مفيش مشاكل هتحصل بين أى عائلة لو الشرطة موجودة»، ويترجل عبدالجواد وأهل قريته بالأسلحة خوفاً من خصومهم، ربما صادفه أحد أو تربص له واقتص منه: «الراجل فى القرية بدل الشرطة بسلاحه، عشان مفيش أمن كل واحد ماسك سلاحه لكن لو فيه أمن وفيه شرطة فى النقطة محدش راح يشيل سلاح خالص».
قد تمتد المعارك داخل قرية أبوحزام بين عائلات العرب والهوارة إلى شهر، تستمر فيه المعركة، حسب رواية عبدالرحيم، لا يستطيع فيه أحد من الأهالى الخروج ليقتات لقمة عيشه، ويعيش الرجال حبيسى البيوت لحين انتهاء الاشتباكات الدائرة.
آخر تلك المعارك بين السعدية من قبيلة الهوارة والعوامر من العرب قبل شهر، وشطرت القرية نصفين: «العيلة ديه محضرة رشاشاتها والتانية محضرة رشاشاتها»، وتتجمع حينها عائلات قبيلة العرب من نجع حمادى لأسوان ونفس الشىء فى الهوارة، حتى نشبت الاشتباكات مرة أخرى، بسبب قطعة أرض متنازع عليها قبل 30 عاماً وسبق أن قُتل فيها اثنان، ولكن عادت المشكلة للسطح وجددت معها الأزمة.
ويتخوف «عبدالرحيم» وعائلته السعدية من إجراء الانتخابات فى المدارس الموجودة بمحيط بيوت عائلة العوامر: «الهوارة كده مش هيروحوا الانتخابات، عشان لو راح 3 آلاف هوارى ناحية بيوت «العوامر» هتحصل مجازر»، وحسب قوله فالمعارك الثأرية تتجدد مرة أخرى خلال مرحلة الانتخابات فى ظل وجود مواجهة الهوارة والعرب لبعض فى الانتخابات بمرشح من كل قبيلة: «لو الهوارة ماراحتش تصوت فى مدارس العرب هيضربوا المدارس بالنار والمدافع، عشان خاطر يخربوا اللجان اللى مش هيقدروا يصوتوا فيها»، مطالباً بعزل صناديق الهوارة عن العرب: «لو حبوا يضربوا اللجان هيضربوها فى وجود الجيش ومن على بعد كيلومتر، والقرية فيها أسلحة تقيلة زى (14.5 م ط)، بخلاف الآلى والإسرائيلى، وكله مخفى فى انتظار الانتخابات».
شريف أحمد محمد، عضو مجلس محلى سابق، بجسد بض، وشارب عريض، وبشرة سمراء، ولهجة صعيدية مفعمة بالحماس، يقول: «النقطة كان فيها 3 ضباط ومدرعة، كانوا ظابطين البلد، وعايزين نقطة الشرطة والظباط يرجعوا تانى»، ويؤمن الرجل بأن الشرطة قادرة على إعادة الأمن للقرية مرة أخرى، لو قررت العودة دون أن تؤذى أحداً.
وما يزيد الطين بلة هو غياب الخدمات: «اللى مش بيموت بالتار بيموت فى الطريق للمستشفى»، ويشير بيده إلى الوحدة الصحية المغلقة بالأقفال: «مقفولة ثلاثة أيام والثلاثة الباقية تعمل ساعتين فى اليوم واللى بيأجر عربية مايعرفش يطلع ينضرب عليه نار ويموت»، والثأر ينخر عصب القرية، فالمريض لا يستطيع الخروج والوصول للمستشفى فى نجع حمادى، فى ظل غلق الطرق ليلاً، والخوف من الطلقات النارية المتبادلة.
أمام منزل عبدالجواد عبدالرحيم يتراص الرجال على أريكة خشبية يشدون على أسلحتهم، ينتهى كتب الكتاب، ولا يرفع أحدهم فوهة البندقية، للتحية كما يعتاد أهل الصعيد، ويقول أحد الشباب الجالسين: «إحنا مابنضربش نار إلا فى المليان أو لو جبنا تارنا من العرب».
يجلس بشاله الأبيض يلف به رأسه، وجلبابه الأنيق، طويل القامة، ذو شارب خفيف، «سقاو عاشرى»، مأذون الناحية، جاء للمنزل لعقد قران أحد أبناء عائلة السعدية، على بنت عمه، وربما خلده منشغل بنجله القابع فى منزله دون عمل بعد حصوله على كلية الشريعة والقانون: «سمعة القرية لا تمكن أحداً من الحصول على وظيفة»، ويقول إن أهالى القرية يعتمدون بالكامل على الزراعة، وتربية المواشى، وقليل يعد على أصابع اليد الواحد حصل على وظيفة بالدولة.
مأذون ناحية «حمرا دوم» وأبوحزام، يصلى كل يوم والثانى على أحد الذين سقطوا جراء الثأر والفقر والسيل: «هنا الموت سهل جداً» فالسيل يهددهم كل عام دون وجود سدود تمنعه: «فى 2012 وقعت بيوت كتير وزراعات كتير ماتت لما السيل نزل والحكومة ولا عملت حاجة»، ورغم كل الخسائر ولكن لم تصرف الدولة أى تعويض للمتضررين: «خدوا أسامينا ولا صرفوا أى تعويض من 2012 لحد دلوقتى، والزراعة فى الجبل اتضررت بشكل فظيع والقصب غرق والمحصول راح».
وقف «عبدالحكيم على» بلحيته الكثة، وجسده النحيل، وملابسه الرثة، يصيح بملء فيه مشيراً إلى مقر النقطة المغلق، مذكراً الخفراء: «النقطة ديه مش شغالة ولا عمرها اشتغلت، ومفيش أمن وقاعدين فى بيوتنا مرعوبين، وعيالنا بتتخطف من قدامها وتدبح كمان»، فالرجل الذى يعمل مقاولاً خطفت ابنته الصغرى، 6 سنوات، من أمام منزله قبل أربعة أشهر.
«عبدالحكيم» ابن الهوارة، منزله متاخم لنقطة الشرطة، ولم يؤثر وجودها فى حماية الطفلة من الاختطاف، ويروى لـ«الوطن»، قصة اختطاف ابنته بعد صلاة الظهر بساعات حين كان فى عمله.. كانت الطفلة تلعب مع أشقائها وجيرانها أمام المنزل الذى لا يبعده عن نقطة الشرطة سوى أمتار، وظل «عبدالحكيم» وأولاده يبحثون عنها وبعد يومين من البحث المضنى داخل القرية وخارجها، وجد الأب المكلوم ابنته مقطعة الأوصال، داخل «شوال»، ملقاة فى حقول القصب.. يحاول الرجل الخمسينى أن يغالب دموعه التى ملأت عينيه، يتذكر مشهد طفلته الصغيرة: «حطينها فى شوال ومقطعينها ست حتت»، يسكت ملياً ويعاود باكياً: «دبحوها دبح».
يؤمن «عبدالحكيم» أن القضية بعيدة عن الثأر الدائر بين الهوارة والعرب، لكنه يقول: «لو نقطة الشرطة لها لازمة فى القرية ماكنش بنتى اتخطفت من قدامها»، يعدل من وجهته ويصيح فى خفير الشرطة، بعصبية الأب المكلوم، وتنشب مشادة بينهما يدافع فيها الخفير عن نقطة الشرطة، والرجل والحرقة تملأه يهاجمهم وينعتهم بـ«الجبناء»، معتقداً معرفة الشرطة للقتلة وعدم قدرتهم على القبض عليهم.
تعليقات
إرسال تعليق